جهاد عدلة يكتب: "أردوغان وأوراق قوته بعد الجولة الأولى"

profile
  • clock 20 مايو 2023, 10:35:41 ص
  • تم نسخ رابط المقال إلى الحافظة
Slide 01
متداول

 

في الوقت الذي تثير تصريحات كمال كليجدار أوغلو غضب بعض الناس، فإنها ينبغي أن تكون سببا، ضمن أسباب أخرى، لارتياحهم، وتلاشي شيء من توترتهم المشحون بأجواء الانتخابات التركية.
لماذا نقول هذا الكلام؟!

لا يحتاج الأمر إلى بصيرة نافذة حتى ترى عيانا، أحمال الارتباك والتوتر اللذين يثقلان كاهل قادة المعارضة.

نرى هذا في حركة جسد كليجدار أوغلو وهو يضرب على الطاولة بعد جولة أولى تسرب من نتائجها إلى كتلته الانتخابية "اللينة"، أي التي لا تنتخبه لدوافع حزبية، أو لقناعة به، شعور مركب من خوف وقلق وإحباط، أسهم فيه عوامل عدة سنذكرها لاحقا. وقد كان الأولى به أن يبدو متماسكا، ومنضبط الانفعال "للملمة" مشاعر جمهوره المتبعثرة بعد هزة نتائج الجولة الأولى.

ونرى هذا الارتباك في رفع نبرة حديثه، ودخوله بشكل واضح على خط التماس مع الخطاب العنصري بشأن اللاجئين، بعدما نأى بنفسه عن هذا المربع، في حملته الانتخابية الأولى، لاعتبارات متعلقة أولا بتقديم نفسه إلى الغرب كشخصية منفتحة وملتزمة "بالقيم الغربية" في مسألة اللاجئين وحقوق الإنسان، ومتعلقة ثانيا بفائض ثقة في كسب السباق الرئاسي بعد التئام عقد التحالف السداسي الذي يدعمه، على وقع شارع متململ من التضخم الاقتصادي.

ونرى آثار التوتر في أول إجراء اتخذه كليجدار أوغلو، وقبل انقشاع غبار "معركة" الجولة الأولى، بإقالة مساعدَيْه المسؤولين عن حملته الانتخابية، واستبداله بهما أهم شخصيتين في حزبه، وهما رئيسا بلديتي إسطنبول وأنقرة: أكرم إمام أوغلو ومنصور يافاش، كمسؤولين جديدين عن حملته الانتخابية في الجولة الثانية.

ولعل من أبرز مظاهر التوتر الأداء الانتقامي لحزب الشعب الجمهوري بمعاقبة جماعية لسكان المناطق المنكوبة بالزلزال، وهي حماقة سياسية تطلّب تداركها، حركة تلفيقية، بنظر بعض المراقبين، مع حزب الشعوب الديموقراطي الكردي تبرأ الأخير بموجبها من أفعال الحزب الجمهوري، لكن الأكثر واقعية هو وضع تصريحات حزب الشعوب في سياق مؤشرات على نقص التنسيق بين أحزاب المعارضة، وأحادية اتخاذ القرارات ذات التأثير في المسار الانتخابي، وفي المحصلة فتصريحات حزب الشعوب تعبير عملي عن اهتزازات في بنية تحالف معارض يجمع من المتناقضات الفكرية ما يجعل تماسكه، حتى في ظرف وجودي كما تقول المعارضة نفسها، أمرا غير قابل للتحقق.

من الواضح جدا أن تحالف الطاولة السداسية فقد جزءا مهما من تماسكه، وتسرب إليه شيء من الوهن، ينبئنا عن ذلك ما تُنوقل، إعلاميا، عن انهيار رئيسة الحزب الجيد ميرال أكشنار على خلفية نتائج الجولة الأولى، واستقالات حصلت في بعض أحزاب المعارضة، وهي بالرغم من محدوديتها العددية، فإنها ذات دلالة لا يمكن تجاهلها من حيث علاقتها بالتوقيت وبسياق انتخابي كشف وجود فساد وتضليل في حملة المعارضة الانتخابية، أو بعضها على الأقل، شارك فيه مؤسسات قياس الرأي وعلى رأسها "متروبول" التي قال مديرها أوزر سنجر: "لم ننشر نتائج استطلاع رأي أظهر تقدم أردوغان على منافسيه، كان من الممكن أن يضر كيليتشدار أوغلو".

 

اليوم وبعد المكاسب الانتخابية التي حققها اليمين، بفرعيه القومي و"الإسلامي"، ضمن الطاولة السداسية، يشعر حزب الشعب الجمهوري أنه أكبر الخاسرين، لأن أحزابا متوسطة مثل حزب الجيد، وأخرى صغيرة مثل حزب السعادة برئاسة "تمل كرم الله أوغلو"، وناشئة مثل الديموقراطية والتقدم (ديفا) برئاسة "علي باباجان" الذي يوصف بمهندس الاقتصاد في عهد وزارة أردوغان، والمستقبل برئاسة "أحمد داود أوغلو" رئيس الوزراء الأسبق المنشق عن حزب العدالة والتنمية، أفادت من التحالف السداسي بتوسيع حضورها في البرلمان، من دون عائد سياسي وانتخابي يذكر على حزب الشعب الجمهوري الذي يرأسه كليتشيدار أوغلو.

هذا الشعور لدى أكبر أحزاب المعارضة، هو ما يفسر مسارعة قادة الأحزاب "المنتفعة" للتأكيد على استمرارها في "عمل أي شيء حتى يفوز كليتشيدار أوغلو بالرئاسة".

ارتكبت المعارضة خطأ جسيما يوم الانتخابات، على لسان أكرم أوغلو عندما قال: "بحسب الأرقام التي لدينا، فإن كمال كليتشيدار أوغلو هو رئيس تركيا المقبل"، وهو التصريح الذي توًج حملة محمومة ملأت الفضاء السياسي والانتخابي التركي بوهم "الفوز المؤكد" في الانتخابات، ما شكّل نيرانا صديقة لناخبين شعروا أن قياداتهم يعوزها الشفافية، وتمارس التضليل، وقد برز هذا الشعور في المقابلات التلفزيونية التي استطلعت آراء ناخبي المعارضة.

هذا الكلام لا ينبغي أن يدفعنا إلى تجاهل بعض النجاحات التي حققتها الطاولة السداسية، باختراقها أحد معاقل الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية، بانتزاعها مقعدا نيابيا في مدينة ريزا، وكذلك نسبة الأصوات المرتفعة والمفاجئة التي حصدتها في معاقل تقليدية لحزب العدالة والتنمية في إسطنبول مثل منطقة "باشاك شهير" وغيرها.

في الجملة، فإن المعطيات الراهنة، قبل الجولة الثانية، تمنح الرئيس أفضلية في السباق الانتخابي، وليس سببُ الأفضلية قلقا عاشه جمهور الرئيس، سرعان ما تحول إلى ارتياح وتفاؤل بعد نتائج الجولة الأولى، ولا غضبا من قيادات المعارضة انتاب شريحة من جمهورها، وإنما أفضلية الرئيس تكمن، ضمن أسباب عدة، في الموقف المهم للمرشح الرئاسي المنسحب "محرم انجه" الذي أعلن حياده الانتخابي من جانب، بينما هاجم من جانب آخر المعارضة، متهما قياداتها الكبيرة بالوقوف وراء المقاطع الجنسية التي تُدووِلَت له في فضاء التواصل المجتمعي، وقيل إنها مزيفة. وفي جمع هذين المنحيين، الحياد والهجوم على المعارضة، لرجل يملك كتلة انتخابية مهمة جدا، يمكن القول إن الرجل أراد توجيه ناخبيه، بشكل غير مباشر، إلى انتخاب أردوغان، ومنعه من التوجيه المباشر لجمهوره الاختلافات الفكرية الكبيرة بين حزب الرئيس ذي التوجهات المحافظة، وحزب البلد الذي يرأسه انجه، ذي الفكر الكمالي والمصنف ضمن أحزاب اليمين القومي، وهو توجه قريب من حزب الشعب الجمهوري الكمالي ذي التوجه اليساري، وهو سبب قد يوقع به، اذا لم يأخذه في الحسبان، ضررا سياسيا كبيرا في المستقبل.

ولعل تصريح رئيس حزب الديموقراطية والتقدم، علي باباجان، أمس الجمعة، عن استعداده للتعاون مع تحالف الجمهور، الذي يهيمن عليه حزب العدالة والتنمية، في أي مشروع لتغييرات دستورية، خير مثال على تراجع ثقة بعض فريق المعارضة ببعضه الآخر، وكل ثقة منقوصة في المعارضة تعني قوة منقوصة، ومن ثم قوة مزيدة للرئيس، إذ ليس منتظرا من سياسي ممارس، مثل باباجان، أن يدلي بهذا التصريح لو ملك معطيات مريحة عن فوز محتمل لمرشح المعارضة كليجدار أوغلو، ستكون الصلاحيات الكبرى بيده، بل كان على الأقل يتريث.

في الحسابات الانتخابية الراهنة، يبدو سنان أوغان، مرشح اليمين المتطرف، هو حصان الانتخابات الأسود، والمرجِّح لهوية الرئيس، إلا أن العقيدة الفكرية والسياسية التي يجيء منها سنان، تجعل انضمامه إلى تحالف الشعب بوجود الأكراد، أمرا صعبا جدا، إلا إذا نفض كليجدار أوغلو يديه من التحالف معهم، وهذا انتحار انتخابي لا يمكن حصوله، لذلك قد يختار سنان، على مضض، أردوغان مع الضغط في ملف اللاجئين، وخصوصا السوريين، ويبدو أن مسار انضمام سنان لدعم أردوغان، هو الأقرب إذا ما أُخِذ بعين الاعتبار "دندنة" قادة الدولة على ملف اللاجئين، فقد قال الرئيس إن تركيا تبني مساكن تؤمن عودة مليون لاجئ سوري، وقبله بيوم قال وزير الداخلية سليمان صويلو إن نحو ٦٠٠ ألف سوري عادوا إلى بلادهم.
مع العلم أن موقف أردوغان فيما يتعلق بالعلاقة الانتخابية مع سنان، أقوى من موقف سنان نفسه ومن موقف المعارضة، لأن الأصوات الانتخابية التي نالها سنان، يعود جزء كبير منها إلى محرم انجه المنسحب، وهذه الكتلة التي يقدرها مراقبون بأكثر من نصف الناخبين الذين صوتوا لسنان، ستنتخب في الجولة الثانية بعيدا عن تأثير سنان، وإنما وفق إيحاءات محرم إنجه، وبما لا يلتقي مع تحالف يضم الأكراد.

ومن المعطيات السارة لمعسكر أردوغان، اعتلاؤه الأغلبية النيابية، وهو وضع يحرض فريقا من كتلة المعارضة الانتخابية "اللينة" للانفضاض عنها، إذ لا ترغب هذه الشريحة برؤية رئيس (كليجدار أوغلو) محاط ببرلمان يحد من قدرته على تنفيذ وعوده الانتخابية كاملة، ويُستهلَك بمواجهات لا تنتهي مع أغلبية نيابية تترصده.

إلا أن إحدى أهم أوراق أردوغان وأثمرها: الانضباط النفسي الذي أظهره الرئيس وقادة حزبه في تعليقاتهم على نتائج الجولة الأولى، وتركيزهم على "إيجابية مشاركة المواطنين"، واستهدافهم الفئتين الصامتة والمترددة، وكذلك الاقتصاد في الرد على قادة المعارضة الذين ظهروا منفعلين وغاضبين، وأطلقوا تصريحات عكست غياب رؤاهم السياسية، وبرامجهم للبلاد، وتسرب تأثيرها السلبي إلى جمهورهم.

 

 

هذا الانضباط النفسي في أداء أردوغان ومسؤوليه، ينسجم مع تماسك شديد للكتلة الناخبة للرئيس، يحكمها في الغالب العاطفة والرؤية المبدئية المؤسسة على قاعدة الإنجازات التي قام بها أردوغان، مقارنة بكتلة ناخبة مهتزة ومتقلبة يحكم علاقة قسم كبير منها بكليجدار أوغلو منطق الأهواء والمصالح المادية العابرة، ومنطق الرغبة في التغيير لمجرد التغيير.

قد تكون طريق الجولة الثانية، بالنسبة لأردوغان، معبدة أكثر من سابقتها إلى قصر الرئاسة، لأن جزءا كبيرا من وقت المعارضة وتركيزها، سيكون منصبا في المرحلة المقبلة على إزالة آثار إحباط جمهورها وخيبة أمله، ومحاولة استعادة ثقةٍ مفقودة.

والشيء الذي يبعث السرور في معسكر ناخبي أردوغان، حتى الآن، أن المعارضة "تبرع" في إظهار مؤشرات على خوائها من أي مشروع للحكم، وفراغ صندوق برامجها إلا من وعود للشباب، كتوزيع هواتف خلوية مجانا، هي للرشاوى أقرب منها لوعود سياسية، كما أنها تواصل الغرق، أكثر فأكثر، في مستنقع العنصرية، بالتركيز المبالغ فيه على أضعف حلقة في الواقع التركي: اللاجئون، الذين يتحمل الرئيس أثقالا سياسية كبيرة بسببهم، ومع ذلك يصر على عدم إعادتهم وفق الظروف الأمنية والسياسية الراهنة، وهو موقف أخلاقي بامتياز في زمان ومكان ليس فيهما على جدول السياسة، المزدحمة بالمصالح والصراعات، حيز للأخلاق.
هذه الرؤية قد تتغير تبعا لتغير مزاج النخبة السياسية في فضاء انتخابي متخم بالتقلبات.

التعليقات (0)